دراســـــــة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998

10-الصناعات والحِرَفُ والمُرتفقات الحضاريّة
في المعلّقات

لعلّ قرَّاءَنا أن يكونوا قد ألِفوا منا أنْ لا نُحَدِثهَم عن سيرة المُجتمعات وصلاتِها بالإبداع: تأثيراً وتأثُراً، وَعَكْسَاً وانْعِكَاسَاً.. ولا نحْسَبُنا، هنا، مَرَقنْا عَمّا ألِفوا مِنَّا، إذْْ ليس هذا العنوان الذي اقترحناهُ سِمَةٌ لهذه المقالةِ أميناً إلى درجة الصّرامة الصارِمةِ، ذلك بأنّنا لا نريد أن نُلْقِيَ بأنفسنا في أحضان المجتمع الجاهليّ لندارِسَه ونُحَلّله، ثم لا نأتِيَ من بعد ذلك شيئاً...، ولا سيما بعد الكتابات الكثيرة التي اجتهدت في أن تلقي بضيائها على هذا المجتمع العجيب.. ولكننا، اليوم، نجتهد في أن نحلّل حضاريَّات هذا المجتمع ومَرتفقاتِه على بَدائيتّها: لننظُرَ ماذا كان أولئك الأعرابُ البادُوَن يصطنعون من مرافق في حياتهم اليوميّة: من الدّلْوِ والمحْلَب، إلى السيف والخنجر، ومن طَهْو الطعام، إلى شيّ اللّحْمان، ومن إفراغ السّليط في القنديل للاتّقادِ، إلى الرحل والهودج المتّخذَيْنِ للركوب، ومن فلْكَة المُغْزَلِ إلى مَدَاكِ العَروسِ، وَصَلاَية الحَنْظَل، ومن السَّرْج واللّجام، إلى الكور والزِّمام، ومن الخُرْبَةِ والقِرْبة، إلى القَرَظِ والعِظِلم، ومن ثِفال الرَّحَى، إلى المِرْداةِ والأخفْاضِ..

إننا نودُّ أن نتوقَّف لدى بعض ما كانت العرب تصطنعه في حياتها اليوميّة: في حربها وسلمها، وإقامتها وَظعَنِها، وطعامها وشرابها، وفي بيوتها وأثاثها، وفي أَلعابها وأيّام زينتِها.. ولعلّ ذلك كفيل بأن يجعلنا نقرأ هذه المعلّقات، من بعض هذا المسعى، قراءة انتربولوجيّة تحاول الكشف عن الخصائص التفصيليّة للحياة الجاهليّة الأولى، انطلاقاً من نصوص المعلّقات السبعِ.

أوّلاً: الصناعات والحرف:

لا يخلو أيّ مجتمع بشريٍّ من التعويل على مرافق ضروريّة لقيام الحَدِّ الأدنى من النظام والرفاهية في حياته اليوميّة. ولكي يستقيمَ له بعضُ ذلك يجتهِدُ في التغلْب على الصعوبات التي تساور سبيل قضاء حاجاته، وتعترض إنجازَ ما يريد تحقيقه أثناء البطش والسعي: فقد مضى على الإنسانيّة عهد لم تكن تصطنع فيه إلاّ الأدواتِ الحجريّة: فالحجر قدْر، والحجر آثَافِيّ، والحجرَ أداةٌ لتكسير الأحجار الأخراةِ، والحجرَ سِلاح للدفاع عن النفس، وللهجوم على العدوّ، والحجر رَحَى، والحجر بُنْيان، والحجر جِفَان، والحَجَر هو كلُّ شيء لدى ابتغاء الارتفاق في الحياة..

وممّا شاهدنا، من بقايا الأدوات الحجريّة العربيّة: القدور المتَّخَذَة من الحَجَر، والتي لا تبرح تُصْطَنع مرافقَ في بعض المجتمع اليمِنيّ، وخصوصاً في طهْي الحَلْبَة. وقد أمست الآن هذه الأدواتُ الحجريّة باهِظَةَ الثمّن، عزيزةَ الوجود. والقدورَ الحجريّة هي التي تُقَدّم فوق السِّماط إلى الضيف الكريم، وأغلب ما تُطْبَّخُ فيها الحَلْبّةُ التي تقدّم لتحريش الشهيّة، وللحيلولة دون التّخمة، لدى تنناول الأطباق الدسمة الأخراة. ولا يبرحُ صُنّاع، هناك في اليمن إلى يومنا هذا، ينحتونَ هذه القدور من الأحجار، وهي حين تصاب بكسرٍ تعاد إلى صُنّاع مهَرَةٍ ليعالجوا كَسْرَها فتغتدِي صالحةً للارتفاق كما كانت قبل الانكسار..

والذي يزور بلاد اليمن خصوصاً، وهو مهْدُ العروبة وأرومتُها، يندهش للصناعات والحرف اليدويّة التي تزدهر هناك، ممّا يمنح انطباعاً بأنّ تلك الصناعات ليستْ إلاّ استمراراً لِمَا كانت عليه منذ الأزمنة الموغلة في القِدَمِ، وذلك كصناعة الجلود، والسيوف، والخناجر، والأَفْرِشَة، والأثواب التقليديّة، والقدور الحَجَريّة وسَوائِها من الصناعات التي لا نكاد نلفي لها إلاّ أثراً ضيئلاً في مجتمعات عربيّة أخراة لمباكرة الحضارة الغربيّة إيّاها..

ولمّا كانت المعلّقات شِعراً عربيّاً، ولمّا كانت تضرب بجِرَانِها في أَوَاخِيّ الدهر الذي كان قبل الإسلام: فلم يعد مقبولاً أن لا نتوقّف لدى هذه المعلّقات لننظر ماذا كانت العرب تصطنع من هذه الأدوات، انطلاقاً من نصوص المعلّقات السبع، وما لم تكن تصطنع، ولنحاول، من خلال ذلك، التوقّف لديها لقراءتها قراءة انتروبولوجيّة.

1-الصناعات والحرف في معلّقة امرئ القيس:

لقد ألفينا الدباغة هي التي تستأثر بالمرتبة الأولى، لدى تتبّعنا لمعلّقة امرئ القيس نبحث في مَتْنِها عن شأن المرتفقات والصناعات والحِرَف التي كانت، بحكم التاريخ، كلها يدويّة، كما يؤخذ ذلك من بعض قوله:

*وأرْخِي /زِمَامَه/،

*وكشْحٍ لطيفٍ /كالجَدِيلِ/ مُخَضّرٍ.

ثمّ تتوالَى الحرف والمرتفقات الأخراة بتواتر لا يزيد عن المرّة الواحدة، مثل قوله:

*وقِرّيَةِ أقوامٍ جَعَلْتُ عِصامَها: (سِقاية).

*مَداكَ عَروسٍ أو صَلايَةَ حَنْظَلِ: (زيّنة).

*فبات عليه سرْجُه ولجِامُه: (فروسيّة ودباغة أيضاً)

*أمالَ السّليط بالذّبال المُفَتّلِ: (إنارة منزليّة).

*فلْكَة مُغزَلِ: (صناعة النسيج).

*حتّى بلّ دَمْعِيَ مِحْمَلي: (صناعة حربيّة قائمة على تصنيع الفولاذ والدباغة).

وكذلك نلفي أدوات: محْمَلِي، وفلْكَة المُّغْزَل، والذُّبال المُفَتّل، والسّرج، واللّجام، وَمَداك العروس، والقِرْبة، والعِصَام (الوِكَاء)، والجَديِل (خطام يُتّخَذُ من أدم) والزِّمام.. تُشَكِّلُ أَهمَّ ألفاظ المرتفقات والصناعات في متن معلّقّة امرئ القيس. وهي قائمةٌ من الألفاظ الحضاريّة فقيرةٌ إذا قِيسَتْ، مثلاً، بما ورد منها، في هذا الحقل، لدى طرفة بن العبد في معلّقته. وليس هناك من عِلّةٍ في منظورنا إلاّ لأنَّ امرأَ القيس كان أميراً من الأمراءِ العربِ، منعماً موسراً، فكانت ألفاظ الصناعات والحرف قد تفوته لِتَرَفّعِهِ عَنْها، لانْعِدام تجرَبِتِه معها، ومُعايَشَتِه اليوميّة لها.

وحتّى هذه المرتفقات الحضاريّة الذي وَرَدَتْ في معلّقة امرئ القيس، حين نعيدها إلى سياقها في متن المعلّقة، نُلفيها متّصلةً، غالِباً، بمواقفِ الحُبِّ والجمال، ما عدا:

*وقربةِ أقوامٍ جعلْتُ عِصامَها

لكنّ الأقدمين أنفسهم كانوا ذهبوا إلى أنّ هذا الشعر ليس له، وأنّه مدسوسٌ عليه، وأنّ جمهورَ الأئمّة لم يَرْوِ بعض هذه الأبيات التي وقع ترجيحُ عَزْوِها لتَأبّطَ شَراً(1). ويعني ذلك أنّ هذه الأبيات الأربعة التي هذا الصدُر منها كأنّها لم تُوجَدْ. وما استشْهَدنا به، منها، كان من باب احترام متن النصّ كما أورده الزوزنىّ، والقُرشيّ.. إلاّ فإننا لا نرتاب في أنّ هذا الشعر لا يتلاءم مع اللغة الشعريّة لامرئِ القيس، ولامع حياته أيضاً، فكيف نعزوه له، وهو عليه، في الغالب، مدسوس؟

فقوله: وأرخِي زمامه: إنما قيل في معرض محاورته فاطمة يوم دارة جلجل.

وقوله: حتّى بلّ دمعي محملي: إنما قيل في معرض البَكّى على الحبيبة الراحلة، والعزيزة الظاعنة. وقوله أيضاً: كالجَديل مُخَصَّرٍ: إنما قيل في معرض وْصفِ كشْح امرأةٍ كان يتمتّع بها من لهوٍ غيَرُ مُعْجَلٍ. وهلمّ جرّا....

2-الصناعات والحرف في معلّقة طرفة:

وممّا لاحظناه، ونحن نتابع سيرة هذه الصناعات والألفاظ الحضاريّة المصطّنعة في متون المعلّقات، أنّ طرفة بن العبد يأتي في المرتبة الأولى في تعامله مع الأدوات والصناعات والمرتفقات مثل الأسلحة، والمراكب.. حيث نصادف سيْلاً من الاستعمالات الحضاريّة التي تُحيل، حتما، على حضارة عربيّة شاملة تمتدّ إلى معظم حقول الحياة القديمة مثل: الخياطة، والسِّقاية، والسِّكافة، والدِّباغة، والبِنَاء والفروسيّة، والزِّينة، والحرب، والشراب، والطعام، والحِدادة، والنّجارة، والرَّعيْ، والبَحْرِيّة، واللّعب، كما في مثل قوله:

عَدَوْليّةٌ أو مِنْ سَفِينِ ابْنِ يَامِنٍ

يَجورُ بها المَلاّحُ طوراً ويَهْتَدِى

يَشُقُّ حبابَ الماءِ حَيْزومُها بِهَا

كما قَسَمَ التُّرْبَ المُغايُل باليَدِ

ففي هذين البيتين الاثنين تطالعنا أربعُ صناعات، أو أربعةُ مظاهر من مظاهر الحياة البحريّة السائدة على عهده:

أوّلاً: حيزوم السفينة، وهو صدُرها، ومَقَدّمُها. ولا يعني ذلك إلاّ لأنّ العرب كانوا أهلَ بحريّة على عكس ما يُشاعُ عنهم بعد أن جاء الله بالإسلام، وأنّ عمر بن الخطّاب كان يتخوّف من البحر ويفضّل أن لا يكون بينه وبين المسلمين حاجِزٌ مائيّ(2): فإنّ البلاد العربيّة يَحْدَوْدقُ بها الماءُ من ثلاث جهاتٍ، فكيف لا يكون للعرب القدماء علاقة بالبحر، وقد رأينا أنّ السفن كانت تُبْحِرُ إلى جدّة، وأنّ الكعبة سقفت من بقايا سفينة روميّةٍ غَرقَتْ قُرْبَ شاطئ جدّة(3)؟

وعلى الرغم مِنَ أن الروايات القديمة تزعم أنّ هذه السفينة كانت لأَحَدِ تُجّار الروم طوراً، ولقيصر ملك الروم طوراً آخر(4)، فإنّ ذلك لا يأتي في رأينا، إلاّ لتوكيد علاقةِ العرب بالبحر على كلّ حال..

 

وإنّا لنتساءَل كيف كان العرب ييمّمون الحبَشة: أكانوا يأتون ذلك على متون إبلهم، في البحر الأحمر؟ وكيف وَقَعَتْ هجرةُ أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى بلاد الحبشة أيضاً؟ وكيف وقع تزويج الرسول عليه السلام من أمّ حبيبة وهي بالحبشة، وهو بالمدينة(5)؟... لقد تعامل العرب مع البحْرِ حتْماً، وهو أمْرٌ كان الموقع الجغرافيّ يفرضه عليهم فرْضاً...

وأيّاً كان الشأنُ، فإنّ الذي يعنينا، هنا والآن، أنّ طرفة يلتقط لنا هذه الصورة الدالّة على أنه كان يشاهِدُ السفينة، على الأقلّ، إن لم يكن يمتطيها وهي تمخر به عُباب البحر، كما تحدّث عن البحر والسُّفُنِ عمرو بن كلثوم أيضاً:

*وماء البحر نَمْلؤُه سَفِينا.

وكما كان امرؤ القيس، هو أيضاً، تحدّث عن البحر وشبّه به أهوال الليل، وظلامه، ومخاوفه:

وليلٍ كموجٍ البحر أرخى سُدوله

عليّ بأنواع الهمومِ لَيْبتَلِي

ومن الواضح أنّ طرفة يتحدّث، هنا عن السفينة وهي تمخر أمواج البحر الطامية، وتشقّ حَبابَ الأمواهِ بحَيزْومها، ولم يذْكُرهَا تشبيهاً، فِعْلَ امرئِ القيس، ولا ادّعاءً وافتخاراً، شأنَ عَمْرِو بنِ كلثوم..

ثانياً: أنّ ذِكْرَ السفينة:

*عَدَوْليّةٌ أو مِنْ ابْنِ يَامِنٍ

يؤكّد أنّ هذه السفينة كانت لرجل عربيٍّ من البَحْريْن، كما اتفق رواة المعلّقات(6). ولعلّ اسم ابن يامنٍ يدلّ على عروبته، وأنّ البحرين، خصوصاً، كانوا يصطنعون السُّفُنَ في التبادل التجاريّ مع الحبشة..

ثالثاً: أنّ طرفة يلحّ في وصف حركة هذه السفينة والمَلاّحُ يبطشُ بها، ويكُدُّ في توجيهها: فَطْوْرَا يجور بها عن نحو الغاية، وطوراً يهتدى السبيلَّ إليها اهتداءً.

رابعاً: أنّ هذه السفن لم تَكُ مصنوعةً من حديد، ولا من فولاذ، ما عدا بعض أجزائها، ولكنّ المادّة الأوّليّة التي كانت مصنوعة منها كانتْ خشباً. ويعني ذلك أنّه كان وراء هذه السفن نُجّارُون وحدّادون بارعون، للإصلاح من بعض شأنها، على الأقلّ، حين تتعرّض -بفعل كثرة الاستعمال وإلحاح البِلَى- لبعض العَطَب: في ميناءِ البحرين، وربما الحُديدة، وجدّة، وَسَوائِها من الموانِئِ العربيّة القديمة.

وعلى أنّنا ألفينا الحرب هي التي تستأثر بالمنزلة الأولى، في معلّقة طرفة، وذلك باستعمال أدواتها وآلاتها ومُرْتفقاتها بوجه عامّ، مثل: الحُسام، والعَضْب الرقيق الشفرتَيْنِ المُهَنّد، وقائم السيفِ، والوَبيل، والحَنِيّ (القسيّ). وربما طًغَا الاهتمام الحرْبيُّ على اللغة المعلّقاتيَّةِ لدى طَرَّفة لأنَّ مجتمَعَه، وعهّده، معاً: كانا ينهضان على التناحر والتنافر، والتحارب والتصارع، من أجل البقاء طورا، ومن أجل السلطان والجاهِ طورا، ومن أجل التعصّب للقبيلة، ونُصْرَتِها، طورا آخر...

فالقِيَمُ التي كانت تحكم المجتمعَ الجاهليّ، أساساً، هي قيَم الحرْبِ، والنّضْحِ عن القبيلة، وحماية الجار، وَردِ الغاراتِ المشنونةِ على القبيلة من وِجْهة، وشنّ غاراتٍ على قبائلَ أخراةٍ كُلّما دعا إلى ذلك دَواعِي الضرورة، مِنْ وِجهة أخراةٍ. فلم يكن الحَكَم التُرْضَى حُكوَمتُه بين الناس، في معظم الأطوار، إلاّ السيف والرَّمح، والقوس والسهم. إذْ ما أكثر ما كان يقع الاعتداءُ على شخص ما، لأتفْهِ الأسباب، كرَمِيْ جسّاسِ بنِ مُرَّة الشيبانيّ كُليبَ بْن وائلٍ لمجرّد أنّ كُلَيْباً كان رمى ناقة البَسوس... فقد كان يمكن تقديم تعويضات عن الناقة المرميّة بسهم قاتل، أو الاعتذار، أو التغاضي، من أحد الطرفين، من أجل حَقْن الدماء، ولكنّ شيئاً من ذلك لم يكن! وتمادَتْ بكر وتغلب، وهما قبيلتان أختان، في التقاتل والتناحر، والتشاحن والتعادي، على مدى أربعين سنة فقدت القبيلتان الاثنتان الماجدتان، خلالّها، أفضل رجالاتِها، وأشرَفَهُ حَسَباً، وأَعْلاهُ نَسَباً، وأشْجَعَهُ قلْباً.. لم تَنْتَصِرْ أيّ قبيلةٍ على أُخْتِها.. بل إنّ القبيلتيْن كلتيْهما خرجَتَا خائبتَيْن من هذه الحرب، منهوكتيْن، حزينتيْن على ما فقدت من رجالاتها سُدىً..

فكان من غير المنتظَر، وحالُ المجتمع الجاهليّ شيءٌ ممّا ذكرنا، أن لا تستبدَّ الحربُ باللغة الشعريّة لدى طرفة في معلّقته.

ذلك هو تفسيرنا لغَلَبة اللغة الحربيّة على لغة السلام لدى تتبّعنا الأسماء الأدوات والآلات والمرافق الواردة في معلقة ابن العبد.

ثمّ تأتي في معلَّقته ألفاظ الزينة، في المرتبة الثانية، كما يَمْثُلُ ذلك في بعض قوله:

*تلوح كباقي الوَشِمْ في ظاهر اليد

 

*ولم تَكْدِمْ عليه بِإثْمِدِ

*وعينان كالماوّيتين اسْتكَنّتا (الماويّتان: السّجَنْجَلان).

وتتبوَّأُ معها ألفاظُ الدِّباغة والسِّكافة هذه المرتبة -الثانية- ويمثل ذلك في قوله:

*وكأنّ عُلوبَ النِّسْعِ في دَأَيّاتِها

*ومِشْفَرٌ كَسِبْتِ اليَمانِي..

*ملوىّ من القَدِّ

ومعها تأتي المرتفقات المتمحّضة للبناء كما يَمْثُلُ ذلك في بعض قوله:

* بابا مُنيفٍ مُمّرّدِ

*كِمْرداةِ صَخْرٍ في صفيح مُصَمّدِ

*ولَتَكتْنَفَنْ حَتّى تُشادَ بِقَرمَدِ

ثم ترد ألفاظُ السِّقاية، مثل:

*على حَشَفٍ كالشَّنِّ (كالقِربة) ذَا و مُجَدَّدٍ (مقطوع)

*بسَلّمَيْ دالِجٍ (السَّلْمَانِ: الدّلوان)

ونلاحظ أنّ هناك أدوات أخراةً، صنّفناها في تصنيفاتٍ أخراةٍ، مثل الأدوات المتّصلة بالمراكب والأَسفار والبيوتِ والفُروسيّة وَسَوائِها...

3-الصناعات والحرف في معلّقة لبيد:

ونُلفي الدِّباغة هي التي تستأثر، في باب الصناعات والحرف، باللغة الشعريّة في معلّقة لبيد، إذ تواتر ما له صلة بها أربعٍ مراتٍ على الأقل، وذلك مثل قوله:

*خِدَامُها

*أَعْصامُها

*في الزِّمام

*العِنَان

وإنما تكاثرت حِرَفُ الدّباغة والجُلود لصلة الصناعات التقليديّة بها، فمن الجُلود تُصْنَعُ الفُرُش، والسروج، والأعِنّة، والأَزِمَّة، والخَدَم، ومحامل السيوف، وأجربتها، والمَزاوِد، والشِّنّان، وما لا يُحْصَى من المرتفقات البِدائيّة التي كان يرتفق بها في الحياة الجاهليّة بأنواعها..

ثمّ نلغي أضْرُباً أخراةً من منتوج الصناعاتِ المختلفة مثل الأدوات الموسيقيّة:

*اليَراع.

*المُوَتَّر (عود الطَّرَب).

ومثل: النِّجارة، والتِّجارة، والفَتِالة، والفِرَانة.

فلمّا كانتْ لغةُ الشعر امتداداً للغة الحياة اليوميّة، مع التسليم بضرورة رقيّ تلك عن هذه -ولكنّ ذلك لم يكن على ذلك العهد حيث كانت اللغة العربيّة لا تزال وحشيّةً كأنّها خرَجَتْ من حِضْن الطبيعة، وعذريّة كأنها وُلِدَتْ من رَحِم أُمِّها لِلْتَّوِّ.. ولكنه أصبح قائماً على عَهْدِنا هذا حيث تكاثرَتِ اللغاتُ داخلَ لسانٍ واحد...

4-الصناعات والحرف لدى معلّقاتيّين آخرين:

وتصادفُنا، في مُتون المعلّقات الأخراة، مجموعةٌ من الألفاظ الاِرتفاقيّة، والحِرَفيَّة لعلّ أهمَّها ما يُمَثّلُ النِّجارَة، والطِّحانة، والفِتَالة، والبِنَايَة لدى عمرو بن كلثوم: (الباب -السارية- البَلَنط- الرُّخام- اللّهْوة- المرْداة- الحَبْل)، وما يمثّل الصباغة، والسكافة أو الدباغة، والبناية، والسقاية لدى الحارث بن حلّزة (القَرَظ- المَزاد- الخُربَة (بضمّ الخاء، وخربة المزاد: ثقبتها) - الطِّويّ- (البئر التي تُطْوَى، أي تُبنَى بالحجارة أو اللبن)- الأدلاء)، وما يمثّل البيطرة، والفِرَانة، والدباغة: لدى عنترة (الكُحَيْل- (وهي مادّة كالقطران تطلى بها جلود الإبل اتْقاءً للجَرَب...)

الوقود- السِّبْت (بكسر السين: جلود البقر المدبوغة)، وما يمثّل الصِّوافَة، والجِزَارة، والحِدادة: لدى زهير بن أبي سُلمى:

*كأنّ فُتاتَ العِهْنِ

*على كُلّ قَيْنيّ (القينِيّ: الحِرَفيّ).

ويمكن، بعد أن عُجْنَا على متون المعلقات نستنبط منها الحِرَفيَّاتِ، والقيْنيَّاتِ، نقرّر أنّ طرفة يتبوَّأُ المَقامَ الأوّل بتواتُرِ الحَرِفيّات لديه عشرينَ مرّةً، ثم يليه لبيد بن أبي ربيعة بعَشْرِ صناعاتٍ، ثم يليه امرؤ القيس بزهاء تسْعٍ، ثمّ يليه عمرو بن كلثوم بسَبْعٍ ثمّ يليه الحارث بن حلّزة بخمْسٍ. ويأتي في المرتبة الأخيرة زُهير باثنتيْن فحسب.

ويُمْكِنُ للفضول العِلْمِيَّ أن يحْملَنَا على أن نتساءل: ما الصِّناعَةُ الأولى التي تستأثر بالاهتمام في نصوص المعلّقات؟

إننا لاحظنا أنّ الدّباغة -أو السكافة- تتواتر، من بين زهاء خمسٍ وخمسين صناعَةً وحِرْفَةً ومُرْتفَقاً حضارِيّاً: تتوزَّع على المُعلّقات السبع: خمس عشرة مرة، وتأتي بعْدها العَمِارةُ والبِنَايةُ بسِتِّ مرات، ثمَّ السقاية بأربعٍ، والنجارة بثلاثٍ، والزينة مِثْلها. ثم تَرِدُ الصناعات الباقية بأعداد أقلّ فيتراوح تواترها ما بين مرّة واحدة، ومرتيْن اثنتين.

فكأنّ الصناعاتِ والحِرَفَ الأربع الأولى -ومعهنّ الصناعة الحربيّة -والتي أتينا عليها ذِكْراً، كانت هي أساس الصناعات لديهم. فالدِّباغة تنهض عليها كلُّ صناعاتِ الجُلود على اختلافِ موادِّها: من قِرَبٍ، وشِنَانٍ، وأَزمَّةٍ، وأَعِنَّةٍ، وَأَخْطِمَةٍ، وسُروج، ولُجُمٍ، ومحامِل السيوفِ، وأجْرِبَتِها، والعُلوُب التي تُشتَدُّ بها الأحمال، والقُدود، والخِدَم، والأعْطام، والأَوكيَة.. من أجل كل ذلك، ولشدّة اتّصالها بحياتهم، نجد تواترها في متون المعلّقات السبع يتبوَّأُ المنزلةَ الأولى..

وأمّا البناية، أو العمارة "فَقَدْ يدلّ ذِكْرُ أطرافٍ من أدواتها -وخصوصاً لدى طرفة وعمرو بن كلثوم- مثل القَرْمَد، والباب، والمُنيف المُمَرّد (القصر الشامخ المُمَلّس)، والسوارى، والرُّخام- على أنّ الحواضر العربيّة- مُدُنَها وقُراها -كانت تصطنع أدواتِ البناء، وكانت تتحكّم في العمارة، وخصوصاً في جنوب الجزيرة، وفي حواضرها الشهيرة مثل مأرب، وصنعاء..

ونستخلص من ورد كلّ هذه الصناعات والحِرَفِ على اختلافها وتبايُنِها، أنّ المجتمع الجاهليّ على ما كان فيه من بَداوة، فإنّه كان يعتمد في نظامه العامّ على جملة من الصناعات والحرف التي كانت تؤمّن للنّاس الحَدَّ الأدنى من الرفاهية، ومن الصّحّة، ومن صحّة الحيوان، ومن الدفاع عن النفس، ومن التماسٍ للعيش الرقيق ما أمكن، والرغيد ما وُجِدَ إليه سبيلٌ من السُّبُلِ..

ثانياً- مرتفقات الحرب والسُّلطان:

وعلى الرغم من أننّا لم نُوَفَّقْ إلى تجَنُّبِ بعضِ التكرارِ في تقديم فقراتِ هذه المقالة، إلاّ أنّنا أصْرَرنا مع ذلك، على التزام الْحَدِّ الأدنى فيها من التقسيم والترتيب..

ولم تبرح الحرب تستبِدُّ بتفكير الإنسان، وتستولي على مطامعه، وتهيمن على مطامحه، وتزيّن له كلّ شرّ، وتسوّل له كلّ سوء. فهو يتحارب باسم الدين (الحروب الصليبيّة)، وهو يتحارب من أجل الغَزْو والاحتلال بأنواعه في القديم والحديث، وهو يتحارب من أجل التحرّر (الانتفاضة الفلسطينيّة- حرب التحرير الجزائريّة...)، وهو يتحارب من أجل أن يتحارَب، ويتسلّط ويتغطرس، ويعتدي، ويحتقر، ويُذلُّ الآخرين إذا لم يكونوا على دينِه، ولا من عِرْقِةِ شأن بعض الدول الغربيّة العاتية الي لم تبرح تزْرع القِيَمَ بالصَّواريخ، ومبادئ الحريّة بسفك الدماء.. والإنسان، في كثير من أطواره، يتحارب، ربما، من أجل لا شيء، وإن كان الذي يَشُنُّ الحربَ على سَوائِهِ يُوهِمُ الناس، ولا سيما السُّذَّج والغُفَّل والبُله، بأنّه يحارب من أجل تكريس الحريّة الجميلة، ومن أجل أن تسود المبادئُ السامية علاقاتِ الناس، ومن أجل أن لا يكون الظلمُ والفقرُ والاضطهاد على هذه الأرض المعذبَّة بسكانها، وقل إن شئت: المعذَّبِ سُكانُها..

وأيّاً كانت العلَلُ والأسبابُ التي تنهض وراء شَنِّ الحروب، فإنّ قتلَ الإنسان جريمةُ الجرائم، ومنكر المنكرات، وإثْمَ الآثام...

وإذا كانت الحرب لا تبرح هي التي تستبدّ بالنفقات الباهظة من أرزاق الشعوب، وثروات الدول، غنيّاتها وفقيراتها -ونحن نشارف القرن الواحد والعشرين -فما القول في مجتمع بدائيّ إلى حد بعيد، كالمجتمع العربيّ على عهد الجاهليّة؟ من أجل ذلك نُلفي الحرب، وملازماتها، تتواتر في متون المعلّقات الستّ (حيث خلت معلّقة امرئ القيس من لغة الحرب ما عدا مِحْمَلِي الذي يدّل سياق ذكره على أنّه لم يكن للحرب في تلك اللحظة التي ذكر فيها على الأقلّ، وكأنّه كان للزينة، والدلالةِ على الرجولة والفروسيّة..) سبعاً وخمسين مرةً..

ولمّا كانت معلّقة عمرو بن كلثوم قامت على الحرب، ونشأت عن غَبْن وإهانة، فإنّها لم تتغنَّ بشَيءٍ تَغَنّيها بعظمة القبيلةِ وشجاعتها وعِزَّتها وخِفّتِها للنّضْحِ عن الشَّرف: إباءً للضيم، واستنكافاً من الذّل، وتجانفاً عن العار، فكان العربيّ، على عهد الجاهليّة، إمّا قاتِلاً وإمّا مقتولا. وقلمّا كان الرجل الكريم يموت حْتفَ أَنْفِه. ذلك بأنّ معظم ساداتِ العرب ماتوا بِضَرْبٍ بالسيف، أو رَمْي بالسهم، أو طعنٍ بالرمح، مثل كُلَيب وائِل، ولقيط بن زُرارة في يوم شِعْبِ جَبَلَة، كما مات أخوه مَعْبد بن زُرارة في الأسرْ صبّراً وضُرَّاً.

إنّ معظم سادات العرب ماتوا مقتولين.. فكانت الحرب تقليداً بدائياً لحلّ المُعضلات الناجمة عن سوء العلاقات بين القبائل، أو بين الأفراد فَقَط، لِتتورَّطَ، من بعد ذلك، فيها القبائلُ فتسيل الدماء، وتتضَرَّى الأحقاد، وتقَع الكوارث، ويطول العهدُ بها، في بعض الأطوار، عقوداً من السنين طِوالاً، كما وقع ذلك بالقياس إلى حروب داحس والغبراء، وحروب البسوس لمجرّد أسباب تافهةٍ لا يتعلّق بها إلاّ البَدْو، وأصحابُ الذهنيَّاتِ المُغْلَقَة..

فكانت الحرب، إذن، سلوكاً يومياً في حياة العرب على عهد الجاهليّة، والذي يقصّ أيّام العرب، ويتابِعُها، ويتأمّلها، لا يُلْفِي سيّداً واحداً من سادات العرب انتصَرَ على سَوائِهِ، ولعلّ من أجل ذلك أرسلوا مقولتهم الشهيرة: يومٌ لك، ويومٌ عليك! إذْ لا تُفْضي إراقَةُ الدِم اليومَ، إلاّ إلى إراقة دَمٍ آخرَ غَداً.. وكثيراً ما كان الرجال يَفِرّون إلى غيرِ وجْه من الأرض ابتغاءَ الإفلات من هذا البلاء المبين(7).

فكان الرجل ربما استجارَ بسيدٍ من ساداتِ العرب، ولكنّ ذلك، أيضاً، لم يكن حَلاًّ مثاليّاً، إذ ما أكثر ما يتابع أصحابُ الثأرِ الرجُلَ المُسْتَجَار، فيصيب المُستجار به من ذلك بلاءٌ عظيم.. لقد كانت الحربُ هي السلوكَ الأوّلَ في المجتمع العربيّ على عهد الجاهليّة، ولقد نشأ عنها تقاليدُ كثيرةَ مثلُ تقليدِ الجِوار (وهو أن يطلب هارب إلى سيّد من السادات ليجيَرَه من متابعة خصومه، أو أعدائه، وكأنه يشبه ما يُطْلَقُ عليه، على عهدنا هذا، اللجوء السياسيّ، وحينئذ سَيَجِبُ على المُجِيرِ أن لا يَخْذُلَه أبَداً، ولو تَلِفَتْ نفسه، وزهقتْ مُهْجَتُه، فإن لم يفعلْ، غُيَّر بتخاذُله في حقّ المستجِيرِ به، وعُدَّ لئيماً جَباناً..)، ومسألة الثأر للقتيل حتّى يُقتَلَ بمثْله مِثْلُهُ، أو يُؤدى.

ولكنّ السادات كثيرا ما كانوا يرفضون الدِّيَةَ، ولا يَأْبَونَ إلاّ الدَّمَ بالدَّم، أو النفْس مقابل النفس...

ومن العادات والتقاليد التي ترعرت مع طقوس الحرب، تُسلَّحُ الرجل، وتقَلُّدُه بسيفه أيَّانَ انتقل، وحيّثُ ظعَنَ، إذْ لم يكن هناك نظامٌ أمْنِيٌّ يحميه، ولا دولةٌ قائمة تتولى المحافظة على أمْنِ حياته، هو وأسرته، فكان لا مناصَ لأيِّ شخص يبلغ مبْلَغَ الرجالِ من أن يَحْتَمِل سيفَه معه، وربَّما قوسه ورُمْحَه أيضاً. ولكنّ السيف كان هو السلاح الأشيع في الاستخدام الدّفاعي، والهجومي، معاً، فلا شيءَ كان يُفَكِّرُ فيه العربيّ، في الجاهليّة، بعد ارتداءِ اللباس كسَيْفِه يتقلّدُه ليُدافِعَ به عن نَفسْه، وعمّن تحتَ جناحِه: مِنْ أيّ عُدوان مُحْتَملٍ، وفي أيّ لحظةٍ كانت، على الرغم من أن مَبْدَأ العُدوان لم يكن واضِحَ المفهوم في المجتمع الجاهليّ: فقد ربما كان يُجير سيّدٌ شَخْصاً، وهو في أصل سيرته عدّو لسيّد آخر، فيستبيح المغرورُ منه دمَ الفارّ، ويُعْلنُه بين القبائل، وقد يطلبه تحت كلّ كوكب، فيقع ما يقع.. وقد يقْتلُ الرجل آخر لمجرد أنَّ امرأته شاهدتْه وهو يستحِمّ في عَيْنٍ.. فقد كان ما يُسَمَّى بالشَرف أمراً غير واضِحٍ، فيما يبدو لدى الجاهليّين، فقد كان ذلك الشرف ربما تمثّل في طلب الثأر، وربما في الغَيْرةِ على المرأة، وربما في الدفاع عن الجار، وربما في التضامن مع القبيلة، ظالِمّة أو مظلومة.. وربما في غير ذلك من المواقف.. ولكنَّ ثمن ذلك الشَرف، كان في معظم الأطوار، هو الدّم، دم الرجال الأعزّاء، والفتيان الأشدّاء.

ولولا الأشهرُ الحُرُمُ، الأربعةُ، التي كانوا يلتزمون فيها بالإسلام، ويستمتعون خلالها بشيء من الأمن والطمأنينة، لكان العرب قد تفانَوْا قبل ظهور الإسلام..

من أجل كلّ ذلك نُلْفِي متن معلّقة عمرو بن كلثوم يكْلَفُ بذكر الحرب، ويُورِدُ ألفاظاً دالّةً عليها، أو على شيء من مُلازِماتها. وقد بلغَ عددُ هذه الألفاظ زهاءَ اثنيْن وعشرين لفظاً على الأقلَّ، مثل الأسياف، والرايات، وتاج الملك، والسُّمْر (الرماح) والنِّهاب، والسابِغَة، والنقائذ...

ولقد ارتبطت معاني الحرب بذكر هذه الآلات والأسلحة البدائيّة، والتي لم تكن، في الحقيقة، يومئذ في نفسها بدائيّة، والتي ارتبطت هي، في نفسها، بالصناعات والحِرَف التي كانت سائدة على ذلك العهد.

ويتبَّوأُ عنترةُ المنزلة الثانيّة، بالقياس إلى اصطناعه ألفاظَ الحربِ في معلّقته، بتواتر بلغ ثلاث عَشْرَةَ مرةً. وكما ارتبطت معلّقة عمرو بن كلثوم بشجاعته وإِقدامه، بل ببطشه وشدَّة غضبِه، حين كان يُحسّ بأنّه أُهين، أو بأنَّ قبيلته أُذلّتْ، بحيث وَقَفَ متْنَ معلّقته على موضوع الحرب، والتغنّي بعزّة القبيلة، والفخار بسُؤْددها، والذهاب في ادّعاء شُموخ عظمتِها كُلَّ مذهب: فإنّ عنترة يُشاكِهُهُ، من بعض الوجوه، فقد أُهِينَ الفارِسُ المِقْدَامُ، والكَمِيُّ المِغْوار، وعُيْرَ في بعض المجالس بما لا يجوز فيه: بَسوادِ لونه، وسوادِ لونِ إِخوته وأمِّه أيضاً، وأنه ليس شاعِراً، إذْ لم يكن يقول إلاّ البيتين الاثنين والثلاثّة الأبيات، فأنشأ الفارسُ الشاعرُ قصيدتَه هذه التي صُنّفَتْ فيما بعد في المعلّقات(8).

ولمّا أحب عنترة عبلة ابنة عمه، وهو ابن الأمَّةِ زَبيبَة، كان عليه أن يُثْبتَ تفوَّقُه في ساحة الوغى من أجل أن يَفْتَكَّ إعجابَها به، وتقديرها إيّاه، ولتنتشر أخبارُ شجاعته فتسير بها الركبان، ويتغنّى بمآثرها الوِلْدان، فتجري على كلّ لسان. وذلك ما كان..

ولقد كان منتظَراً، والحال بعضُ ما ذكَرْنا، أن يكون للحرب في شعره حيزٌ واسعٌ، واهتمام بالغ، لأنّه تغنّى بشجاعته، وقوة بطشه، وشدّة فتْكْه بالأبطال في ساحِ الهيجاء، وربط كلّ ذلك بسلوك حِصانه العجيب.. ولعلّ من أجل ذلك تكاثرت ألفاظ الحرب في معلّقته، نسْبياً، فتواترت ثلاث عشرة مرةً مثل: المُسْتَلْئمِ، والرّمح، والسابِغَة، والقِسِيّ، والسيف، والحَقِيقة (الرَّاية)..

ثم يأتي، من بعد ذلك، زُهير بن أبي سُلمى الذي ذكر السلاح، والرماح، والعوالي.. لكنّ زهيرا، حين ذكر من ألفاظ الحرب ما يقرب من سبع مرات، لم يأتِ ذلك ليتغنّى ببطشه وشجاعته، وحُسْن بلائه في ساحة المعركة، كما جاء ذلك عنترة بن شداد، وعمرو بن كلثوم معاً، ولكنه ذكر تلك الحرب ليبيّن مضارَّها، وليكشف عن مآسيها، وليذكّر الناس بويلاتها:

وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمْ

وما هُوَ عَنْها بالحَديثِ المُرَجّمِ

فهو الحكيم العاقل، الرزين الثابت، لا ينوهّ بالحرب، ولا يفتخر بالاشتراك فيها، ولا يتغنّى بجْندَلة الأبطال، وطَعْن الرجال، ولكننا نلفيه يُشَنْع بها. وزهير لا يتغنّى، نتيجةٌ لذلك، بشجاعة الرجال وهم يُقْتَلُون ويَقْتُلون، ولكننا نجده يمجّد شجاعة النفوس، ورجاجة العقول:

لسانُ الفَتَى نِصْفٌ، ونصفٌ فؤادُه

فلم يبقَ إلاّ صورةُ اللّحمِ والدمِ

فكأنّ صورة اللحم والدم هي الصورة الشيطانيّة من الإنسان، على حين أنّ لسانه وقلبه يشكّلان الصورة الطيبة منه. وبعبارة أخراة: فإنّ الإنسان بلسانه وعقله، لا بيديْه ورجليّه، إنّ ألفاظ الحرب في معلّقة زهير يأتي ذِكْرُها على غير ما يأتي عليه ذكرُها في متون المعلّقات الأخرياتِ، ولا سيما معلّقتا عمرو بن كلثوم وعنترة بن شدّاد. فهذان فارسان من فرسان العرب، ومَغَاويرها. وزُهير حكيمٌ من حكمائها ولا سواءٌ شاعرٌ يتغنّى بِنَزَواتِ الشيطان، وينوّه بسَفْكِ الدماء: دماءِ الإنسان، وشاعرٌ آخرُ يَنْهَى عن ذلك، ويزهّد الناس فيه، ويرغِّبُهم عنه.

بينما لم تنل الحرب لدى امرئ القيس إلاّ إشارة غير مقصودة لذاتها:

*حتى بَلّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي

فـ /محملي/، هنا، قد يدلّ على الرجولة أكثر ممّا يدلّ على الحرب، بلْه التنويهَ بها، والافتخار بسَفْكِ الدماء في سَاحِهِا..

وقد نال موضوع الحرب لدى الحارث بن حلّزة، وطرفة، ولبيد، بعض الاهتمام أيضاً.

وكأنّ صناعة الحرب كانت تنهض، أساساً، على آلة السيف بمُرادفاته الكثيرة مثل الحسام، والمخذم، والعَضْب، والمُهَنّد.. حيث ذكر -السيف- في متون المعلّقات زهاء ثلاثَ عشرة مرّة، بينما ذُكِرَ الرمح بمُرادفاته أيضاً مثل السِّنان، والمُثقّف، والسُّمْر، واللّهْذَم، والزجاج، والعَوالي، والسْمهَرِيّ، زهاء عشر مرات.

وإنما ذُكِرَ هذان السِّلاحانِ كثيراً في المعلّقات، وفي مواطن الحديث عن الحرب منها، لأنهما كانا بمثابة ما يسمّى، على عهدنا هذا، المسدّس والبندقيّة. فلا يمكن لأيّ حرب أن تتضرَّى نارُها، ويشتعل أُوارُها، بدونهما: فهذيْن حديثاً، وذَيْنكَ قديماً. من أجل ذلك تكاثرتْ مرادفاتُهما في القديم، وتعددت صفاتهما، حتى اغتدى من العسير إِحصاءُ أسماء السيف والرمح في اللغة العربيّة..

ثالثاً: المائدة ومُرتفقاتُها:

يُعْنَى الأنتروبولوجيّون اليوم، ضمن تحليلاتهم للحياة الاجتماعيّة البِدائيّة، وعنايتهم بتفاصيلها اليوميّة: بما يطلق عليه كلود ليفي سطروس "أصول المائدة"(9) وطقوسها. ولمّا كنّا نحن نعاود قراءة متون المعلّقات، كانت تساوُرِنا، أثناء قراءاتنا، مظاهرُ انتربولوجيّة تنتظم ضمن نظام المائدة وموادّها وطقوسها. وهي سيرة أغفلْتها الدِّراسات الكثيرة التي تناولت الشعر الجاهليّ بعامَّة، والمعلّقات بخاصة. فهناك أسئلة كثيرة يجب أن نُلْقِيَها، وإن كنّا لسْنا ملزَمين، كما لا نُلْزمُ أحداً، بالإجابة عنها مثل: كيف كان العرب في الجاهليّة يَحْيَوْنَ حياتهم اليوميّة الرتيبة؟ وماذا كانوا يأكلون؟ وكيف كانوا يأكلون؟ وهل كان هناك ألوان من الطعام خارج نطاق لبن الناقة والنعجة؟ وأيّ شيء كان أمثل لديهم، وأحبّ إلى نفوسهم حين كانوا يجوعون؟ وكيف كانوا يشرّبون من العيون، ويمتحون من الآبار؟ أكانوا يأتون ذلك كيفما اتفق، وإذن لكانوا أصيبوا بالأمراض، أو كان لهم من النظام الصّحّي الحدَّ الأدنى الذي كانوا يلتزمون به، ويُلْزِمون سَواءَهُمْ به؟ وما الموادُّ الغذائيَّة التي كانَتْ تشكِّلُ أساسَ مطبَخِهم، وأطباق مائدتهم؟

وإنّا لنعلم أنْ كُلّ عربيّ، وكلّ أسرة عربيّة، كان لا يخرج أمرهُ عن حَالَيْنِ اثنتين: فإمّا أن يرْحَلَ، حين كان يرتحل بأسرته وينتقل من مكان إلى آخر، وإما أن يَظْعَنَ بالمُحِلاّتِ. فإمّا المُحِلَّتَانِ، لديهم، فكانت تقتصر على مُرْتفَقَيْنِ اثنيْن فَقَط وَهُمَا: القدْرُ والرَّحَى. ومن كان منهم معه المُحِلّتَّانِ فحسب كان مُضْطراً إلى أن يجاور سَواءَهُ ليستعيرَ المرتفقات الأخراةَ المتمحّضةَ للمطبخ والمائدة. بينما الذي كان معه المُحِلاّت، لم يكن يضطرّ إلى الجِوار سواء أكان ظاعِناً أم مقيماً. وكانت المحلاّت لديهم تتمثّل في جملة من مرتفقات المطبخ والمائدة أهمّها: القِدْر، والرَّحَى، والدَّلْو، والقِرْبة، والجَفْنَة، والسِّكين، والفَأْس، والزَّند (وهو المِقْدَحَة -التي تقدح بها النار- بلغة الجاحظ)(10).

فأيّ بيتٍ كان نظامُه الغذائيّ الأدنى ينهض، فيما يبدو، على امتلاك المُحِلاّت، واصطناعها، وتسخيرها في الحياة اليوميّة لنظام التغذية، أو للمائدة. ويبدو أنّ النساء (أو الإماء في الأسر المُوسَرِة) هنَّ اللواتي كَنَّ يَطْحَنّ حَبَّ البُرِّ، أو الشعير، أو الذّرة.. وقد ورد ذكر لفظ الرَّحَى، جملة مرات، في معلّقتي زهير وعمر بن كلثوم. كما ورد ذكر الثِّفال، واللّهْوة، والطَّحِين.. في معلّقتيهما أيضاً..

وإذا كان الثِّفال في أصله هو مجرَّدَ جِلْدٍ يُبْسَطُ تحت الشِّقِّ الأسفل لقُطْبَي الرَّحَى، حتّى إذا طُحِنَ الحَبُّ لم يختلط الدقيق بالتراب، فإنّ التقاليد الغذائيّة المتّصلة تمتدّ إلى طقوس كانت معروفة في نظامهم الغذائيّ، فقد كان اللبَنُ هو الغذاءَ الأوّلَ في المائدة العربيّة على عهد الجاهليّة، وخصوصاً في البوادي. وكانوا لا يعدِلُون به أيَّ غذاءٍ آخر، ولكنّ ذلك لم يكن يتأتّى لهم إلاّ حين كانوا يَتَبَنّكون في الخِصْب، فإنْ أعوزتْهم هذه المائدةُ المفضّلةُ، كانوا يعْمِدون، على شيء من المضَضِ، إلى التْمْر أو الزَّبيبِ واللحم أو الحَبّ. وكانوا "يسمّون كلّ ما يؤكل من لحم أو خبز أو تمر ثُفْلاً"(11).

وكانوا يتناولون الطعام بأصابعهم، ويأنّفون من اصطناع السِّكّين التي كانوا يَرَوْنَها مَفْسَدَةً للطعام، مَنْقَصَةً لِلَذّتهِ (12)، وكانوا يرون "أنّ أطيب المأكول ما باشرتْه كفّ آكلِهِ، ولذلك خُلِقَتِ الكِفّ للبطش والتناول"(13).

وكانت مائدتهم تقوم على قول قائلهم، وهو أبو ذؤيب:

والنفس راغبّةٌ إذا رغّبَّتْها

وإذا تُردُّ إلى قليلِ تَقْنَعُ

فقد كان البُرُّ معروفاً لديهم، وكان فيما يبدو، هو أجودَ الطعامَ، وأطيب العيش، لدى أهل القرى والمدن والحواضر، ويؤيّد هذا المذهب قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أطيب العيش بأنه "لُباب البُرّ، بصِغار المِعزَى"(14). بيد أنّ الأعراب البادين كانوا يُضطرّون أيام المجاعات التي كثيراً ما كانت تضربهم، فتُمضُّ أجسامهم، إلى أن يأكلوا خبائِبَ الطعام مثل العِلْهِزِ"(15)، والحَيّات، وإلى أن يشرَبوا أسوَّأَ المشروبات مثل الفَظّ والمَجدوع(16).

وكانوا ربما اضطُروا إلى أكل اليَرابِيع، والضِّباب، والغِرْبان، والجَراد.. ولكنّ هذه المائدة كانت موقوفة:

1-على الأعراب البادين المحرومين.

2-لكنهم لم يكونوا يتناولون مثل هذه الأطعمة المستقذَرَة إلاّ حين كانت السنون تضربهم بجَدْبها، وتصيبهم بإِمْحالَتِها.

وأمّا أهل اليَسار فكانوا يعرفون، منهم، خُبْزَ البُرّ، وسميذَه، كما يدّل على ذلك بعض أسماء الأطعمة العربيّة القديمة مثل المَّضيرة، والهَريسة، والوَشِيقَة، والعَصِيدة، والفالوذ(17)، والتمر، أو الرَّض، والمَحْض (اللبن الفصيح) وزبدة وَسَمْنه، والعسل المُصَفّى، والمرق المعقود باللحم.. ويدلّ على ذلك بعض أطبختهم مثل الغسّانية، والحيسة، والرَّبيكة، والخَرِيزة، واللّفِيتَة.. وكانوا، ربما، عافوا أكل الدِّماغ، وإلية الشَّاه(18). كما كانوا ربما يستعجلون أكل اللحم قبل أن ينضج، وخصوصاً "إذا سافروا، وَغَزَوْا"(19).

وتزعم بعض النصوص القديمة، في شيء من التناقض(20)، أنّ المائدة المفضّلة لدى العربيّ كانت هي اللبن، وكانوا لا يرتضون بهذا المشروب المغذِي أيَّ طعام آخر ما وفر لديهم، ووُجدَ في بيتهم، فإن أعوزَّهم، عَمَدوا إلى نِشْدانِ أطعمةٍ أهْل المَدَرِ كاللحم والخبز والزبيب.. وكانوا يسمّون هذا الوضع المعيشي، كما سبقت الإيماءة إلى بعض ذلك، التَّثافُل، فكانوا، إذن، في تلك الحال، هُمُ المُتَثافلِينَ. ولكنهم كانوا إذا وقعوا في المُثافَلَة "كانوا أشدّ ما تكون عليه"(21) حالُهم من الشَّظَفِ وسُوءِ الغِذاء.

فكأنّ اللحم والخبز والزبيب والتمر كانت أطباقاً تأتي في المنزلة الأخيرة من مائدتهم، وكأنّ اللبن كان هو الطعام الأوّل في نظامهم الغذائيّ، فكانوا يعدّونه الألذ الأرقى والأجودَ جميعاً.

ويبدو أنّ المائدة العربيّة كانَتْ تنهضُ على وَجْبَتَيْنِ اثنتيْن فقط: الاصطباح والاغتباق (الفَطور والعَشاء بلغتنا اليوم، وإن كان لفظ "الاصطباح لا يبرح مستعملاً في المائدة اليمنيّة إلى يومنا هذا). ويبدو أنّ طبَق الصباح، أو الاصطباح، كان يقوم في الأطوار الباذخة على اللبن المَحْضِ الفَصِيْح، بينما كانت تقوم وَجْبَة المَساء (الاغتباق) على الرَّضّ (وهو طبق يقوم في تركيبته على رضّ التمر ثم نقْعة في اللبن المحض)(22).

وأيّاً كان الشأن، فإننا نصادف في متون المعلّقات إشاراتٍ واضحةً إلى المائدة العربيّة، ومرتفقاتها ومركّبَاتِها مثل: الأَثافيّ، والمِرْجل، والمُعَرّس، والرّحى، والثِّفال، واللّهْوَة، والقِرَى، والطَّحين، والمزاد، وخُربة المزاد، والقِرْبة..

وكان المعلّقاتيّون يتباهون بإطعام الطعام، وعَقْرِ المطايا، شأن امرئ القيس الذي صوّر بعض ما حدث، أو ما اعتقد الرواه الأقدمون أنّه قد حدث، يوم دارة جلجل، وذلك حين قال:

ويوم عقرتُ للعَذَارى مطيتي

فيا عجباً من كُورها المُتَحَمَّل

فظلَ العذارى يرْتمين بلحْمها

وشَحْمٍ كهُدَّاب الدمقْسِ المُفَتّلِ

فلم يكن هذا العَقْرُ مجرّدَ عَقْرٍ في نفسه، ولكن تلاه، أو صاحبه وزامنه، جَمْعُ الحطب، وتأجيجُ النار، وتحضير الجَمْر، ليقع، من بعد ذلك، شيُّ لحم مطيَّة الشاعر، وليظلّ العذارى يَطْعَمْنَ منه حتى شبِعْن، فأَنْشَأْنَ به يترامْين: كلّ واحد تُلْقِي لصُوَيْحِبتِها بقطع اللحم المشويّ لكثرته، وهي عادة عربية لا تبرح قائمةً في المائدة -في بعض البلدان العربيّة الأصيلة - إلى يومنا هذا.

ويمكن أن نستخلص من هذا النص المرقسيّ بعض ما يلي:

1-إنه يؤكّد اتخاذ العرب، وكلّ المجتمعات الصحراويَّة تَأْتِي أتْيَهُم، الإبلَ طعاماً لهم، إلى جانب معظم لحوم الحيوانات الأخراةِ التي جرت العادةُ لدى الناس بأكْلِها. وقد شاع بين الناس أنّ حاتما الطائيّ نَحَرَ فَرَسه لِضيفَانِه، حين لم يجدْ شيئاً يقدّمه لهم قِرىً من اللّحمان، ولكن ذلك كان ضرورة..

2-إنّ عادة الشَيِّ أزليّة، وإنّ المجتمعات البدائيّة كانت اهتدَت السبيل، منذ فجر التاريخ، إلى مائدة اللحم المشويّ، وطعمه. وإنّ المائدة العربيّة كانت تقوم على شَيِّ اللحم كقيامها على العناصر الغذائيّة الأخراةِ..

3-إنّ طقوس الاحتفال بالطعام كانت معروفة لديهم، فكان الواحد منهم ربما أبّى أن يأكُلَ وحده حتى يُلفِى من يُطاعِمُه. ولعلّ سلوك امرئ القيس بِنَحْر المطيّة، وَشيِّها، وإطعام هؤلاء النساء، مع عبيده أو عبيدهن، من لحمها، يندرج ضمن هذه الطقوس الجاهلية للتعامل المائديّ.

4-إنّ المطيّة (قد تكون جَمَلاً، وقد تكون ناقة) التي نحرها الشاعر للعذَارى لم تكُ هزيلة عجْفاء، ولا شارِفة هِمَّةً، ولكنها كانت سمينةً فَتِيَّةً، وآيتُنا على فتائِها وسمنها أمران:

أوّلهما: أنّ لحمها على الرغم من أنّه ذُبِحَ لِتَوّهِ (والمعروف أنّ اللحم يعْسُر طهْيَه أو شَيُّهُ قبل أن يبرُدَ، ويتعذّر ذلك كلّما قلّ فَتاؤُه، وتأكّد هُزالُه): كان صالحاً للشَيِّ، كما كان، نتيجة لذلك، صالحاً للأكل.

وآخرهما: أنّ هذه الذبيحة كانْت سمينةً بحكم منطوق النص ومضمونه، أي أنّ شحمها كان أبيض كأهداب الحرير، فكان، إذن، لحمُها مشبَعاً ببعض الشحم الذي يُشَمّ له قُتَارٌ يُسيل اللعابَ فتتلمّظ له الشفاه، وذلك حين يوضع على النار ليُشوَى، لا سيما إذا كان ذلك في الهواء الطلق، وفي الحيز الرحب. وعلى حطب طبيعيٍّ، وعلى ضِفافِ غدير، وبُقْرْبِ عَذارى، وعَبْرَ فضاءٍ مُنْسَاحٍ..

ويؤكّد عادةَ الاحتفال بالطعام، وإقامة طقوس احتفائيّة بالطاعِمين لدى العرب، من خلال متون المعلّقات قولُ امرئ القيس أيضاً:

فظلّ طُهاةُ اللحم من بيْن مُنْضِج

صَفيفَ شواءٍ، أو قَديرٍ مُرَجَّلِ

حيث يمكن استخلاص جملة الأحكام التي لها صلة بالمائدة، لعلّ أهمّها:

1-أنّ عادة المائدة العربيّة في الإطعام، سواء أكانت الدعوةُ جَفَلَى، أمْ نَقَرَى: كانت تَتُمُّ أثناء النهار لأسباب يمكن تصوّرها، ومنها:

أوّلاً: انعدامُ الإضاءة- إلاّ في ليالي القمر حين تُصادفُ الجوّ مُصْحِياً- وقلّة انتشار السَّلِيط بين الناس ليُنيُروا به فتائِلَهم الهزيلة التي لم يكونوا يأمَّنون من الريح أن تُطْفئَها.. أمّا تضْريم النار فإنّ ضَوْءَ التهابِها لا يساعد على الرؤية السليمة أثناء الليل، وكان ذلك يحتاج إلى أكوام من الحطب ضخمة، وإلى عدد كثير من الناس، لتبيت متأجّجة ومشتعلة حتّى تضيء خطوات قليلة من حولها ليرَتَفقَ بها الناس.

وآخِراً: ولقدْ ينشأ عن انعدام الإضاءة تعذُّرُ عودةِ الناس إلى بيوتهم، ولا سيما خارج الحيّ، مع انعدام الأمن، والتعرض لغازات الفُتّاك والصعاليك واللصوص.

2-إنّ عادة الوجبات العربيّة كانت -نقرّر ذلك تارة أخراة -تجتزئ، في الغالب، بوجبتْين اثنتيْن. وربما كانت وجبةُ الاغتباق تَتِمُّ قبيل الغروب للأسباب التي ذكرْنا، إلاّ حين يطرق ضيْفٌ طارئٌ، وغريب جائع، فإنّ الأسخياءَ كانوا يذبحون له ما تيسّر مما كان لديهم من الشَّاء.

3-إنّ اللحم لم يكن يُشْوَى فقطْ، ولكنه كان يُطْهَى أيضاً، فقد ظلّ الطهاة يُنْضجوَن اللحمَ على لونيّن اثنين من المائدة: شَواءٍ، وقَدِيرٍ.

4-إنّ اللحم القَدِيرَ، أو المَطْهُو، كان كأنَّه الطعام الذي يقدّمُ قِرىً، قبل العَمْدِ إلى الشِّيِّ الذي يحتاج إلى جمع حطب جَزْل، وتأجيج نار، وانتظارِها إلى أن تستحيل جَمْراً، ليوضَعَ فوقها اللحْمُ، ابتغاءَ اشْتِوَائِهِ.

وقد يحتاج كلّ ذلك إلى أكثر من ساعتيْن اثنتيْن من الزمان.

وممّا يؤكّد ما زعمناه من أنّ طقوس الاحتفال بالطعام كانت تتمّ، غالباً، أثناء النهار، قول طرفة ابن العبد أيضاً:

*فظلّ الإماء يمتَللْن حُوارَها(23).

وعلى أننا نرتاب، بعض الارتياب، في شأن هؤلاء الإماء اللواتي قد يكنّ من نَفْج الشعراء الذين هم كثيراً ما يقولون غيرَ ما يفعلون، فذِكْر الإماء هنا إيماءَةٌ تقوم على الفَخْرِ والنفْج، وأنّ طرفة كان له إماءٌ كثيرات هُنّ اللواتي كنّ يتولّين طهْوَ الطعام، والقيام بكلّ الأعمال اليوميّة في البيت.

وأيّاً كان الشأن، فصورة الاحتفال بالطعام لدى طرفة امتدادٌ، حتّى لا أقول: مُحاكاة لصورة احتفال امرئ القيس. وقد يكون امرؤُ القيس أصدقَ من طَرفة في هذا الموقف بالذاتِ. وقد ذكر امرؤ القيس، على كلّ حال، طقوسِيَّة المائدِة مرتيّن اثنتيْن في معلّقته -مقابل ذِكْرِها مرةً واحدة لدى طرفة وانعدامها لدى الباقين- وفي الحالين الاثنتيْن ذَكَرَها الملِكُ الضِّلِيلُ على أساسٍ من حدوثها نهاراً لا ليلاً.

والذي دلّنا على ذلك اصطناعُه فعل /ظلّ/ (مثله مثل طرفة)، بدل بعض أخواتها الدالّة على الزمن المنحصِر، أو المنقطع، مثل: أمسى، وبات.

وممّا يتصل بطقوس المائدة، على عَهْدِ الجاهليّة، ممارسة لُعْبَة الميسر التي كانت خالِصَةً للأغنياء، وقل: الأغنياء الأسخياء، حيث إنَّ الياسِرَ محرَّمَاً عليه، اجتماعياً، أن يأخذ شيئاً من لحم البعير الذي نُحِرَ للميسر.. وممّن أومأ إلى هذه الطقوس المائديّة لبيد بن ربيعة في معلّقته إذْ يقول:

وجَزورِ أيسارٍ دعوْتُ لحَتْفها

بمغالق متشابهٍ أَجْسامُها

أدعو بهنّ لعاقلٍ أو مُطْفِلٍ

بُذلَتْ لجيرانِ الجميع لحَمُها

فالجارُ والضّيْفُ الجَنيبُ كأنّما

هبطا تَبَالَةَ مُخصِباً أهَضْامُها

فحفل الطعام، أو قل حفل الإطعام، أو قل حفل مادّة المائدة، هنا مختلف كلّ الاختلاف إذ الطاعم لم ينْحَرْ ذبيحَتَه ليُطْعِمَ منها الناسَ، ولكنه نحرها تباهِياً وتفاخُراً(24): ليأكل من لحمها الغُرباءُ، وقد يطعم من لُحمانها الضِّيفانُ، لكن دون أن يَطْعَمَ هو منها قطعةً من اللحم واحدةً، فطقوس هذه المائدة العجيبة كانت مرتبطة بالمعتقدات الوثنية، والتقاليد الاجتماعية البِدائيّة، والسلوك الجاهليّ الذي ينهض على التفاخر والرِثَاءِ والمَنِّ.

والمائدة، من حيث هي، لا يستقيم طعامُها، ولا تتمّ طقوسُها، ما لم يكن مع الطعام شراب. ويبدو أنّ عامة الناس كانوا يشربون من ماء العيون، أو الغدران، أو الأطواء، أو السيول التي تظلّ زمناً قائمة في السواقي والوديان بعد تَهاتُنِ الأمطار. وغالباً ما كانوا يشربون الماء بعد البيات حتى يستقِرَّ طِينُه، فيصفُو مِمَّا به من كدَرِ التراب أو الغُبار. وكانوا يستقون الماءَ ويدّخرونه في الشِّنان أو القِرَابِ..

ولكنّ نصوص المعلّقات حين تتحدث عن شراب المائدة لا تكاد تتحدث عنه إلاّ على أساس أنَّه خمر، وخصوصاً طرفة وعنترة وعمرو بن كلثوم الذين فصَّلوا في صفات الشراب ومواصفاته بوجه جَعَلنا نُدرك الكيفيَّة التي كان أهل الجاهليَّة يشرَبون عليها، أو بها، الخمر، كما يمثل ذلك في بعض قول طرفة:

*وما زال تَشْرابي الخمورَ ولذّتي..

كريمٌ يروّي نفْسَه في حَياتِه

سَتْعَلمُ، إن مِتْنا غَداً، أيُّنا الصَّدِي؟

وفي بعض قول عنترة:

ولقد شَربْتُ من المُدامة بعد ما

رَكَدَ الهواجِرُ بالمَشوفِ المُعْلَمِ

بزُجاجةٍ صفراءَ ذاتِ أسِرَّةٍ

قُرنَتْ بأزْهَر في الشمال مُفدَّمِ

فإذا شربْتُ فإنّني مُسْتهلكٌ

مالي، وعِرْضي وافرٌ لمْ يُكْلِمِ

وفي بعض قول عمرو بن كلثوم:

ألاّ هُبّي بصَحْنِكِ فاصْبَحينا

ولا تُبْقي خُمورِ الأندرينَا

مشعشعةً كأنّ الحُصّ فِيَها

إذا ما الماءُ خالَطها سخيَنا(...)

وكأسٍ قد شرِبْتُ ببَعْلَبَكَّ

وأُخْرى في دِمشْقَ وقاصرينَا

ويمكن أن نستخلص من هذه النصوص المعلّقاتيّة الثلاثةِ طائفةً من الأحكام، لعلّ أهمّ ما يذكر منها:

1-أنّ مجالس الشراب كانت مَفْخَرةً للرجال، فكان الشاعر يفتخر بكونه يغدو عليها فيشرب فيها، ويشارِب أصاحيَبُه، ويَحْسُو من الخمر ويُعاقِر.. وكأنّ هذه المجالس كانت وقْفاً على كِرام القوم وسَراتِهم.

2-أنّ أهل الجاهليّة كانوا يَعُدُّونَ ذلك فرْصةً لإشباع النّهَمِ الجَسَديّ من رغبة جامحةٍ فيه إلى هذا الشراب الذي كانوا يُلْفون فيه لذْةً عارمة، ومُتْعة غامِرَةً:

كريمٌ يُروّي نفْسَه في حياته

سَتْعلَمُ، إنِ مُتْنا غَداً، أيُّنا الصّدِي؟

فكأنّهم كانوا يَخْشَوْن الصَّدى في الدار الآخرة، فكانوا، في اعتقادهم، يدّخرون لها بعض ما يحتسون من هذه الخمر في الدار الدنيا. ومن الغريب أنَّ طرفة كان مُوقِناً من أنّ الشراب في الدنيا نافع له في الآخرة، وأنَّ من لمْ يشرب، في هذه الدنيا، هو الذي سيكابد الظَمّأ في الآخرة. وربما كانت هذه الفكرة جُزْءَاً من بعض المعتقدات الوثنيّة التي زالت وبادت، والتي كانوا بها يؤمنون.

3-إنّ وقت الشراب كان يتمّ في الصباح، وفي الضُّحى غالباً. وقد كنا علّلنا بعض ذلك بأنّ المساء يُظلّه الليل، والليلُ يُطْبِقُ عليه الظلامُ، وأنّهم لم يكونوا يمتلكون الوسائل المتطوّرة للإنارة فيسَهُروا في الحانات في ظروف مقبولة. وقد يضاف إلى ذلك أنّ الصباح يكون، عادةً، رطِيباً يحلو فيه المجلس. وتدلّ معظم النصوص الشعريّة الجاهليّة، وبما فيها النصوص المعلّقاتيّة (عنترة- عمرو بن كلثوم- الأعشى) وهو أحد المعلّقاتيّين لدى بعض الرواة والنقاد الأقدمين) على أنّ أوقات الشراب كانت غالِباً في الصَّباح، وربّما امتدَّ بها المَجْلِسُ إلى الظّهيرة، وأثناء اشتداد الحرّ بالهاجرة، كما يُفْهَمُ ذلك من قول عنترة:

ولقَدْ شرِبْتُ من المُدامة بعدَما

رَكَدَ الهواجُر بالمَشُوفِ المُعْلَمِ

على حين أن عمرو بن كلثوم يَدُلّ كلامه على أنّ أوقات الشراب كانت في الغَداة:

ألاَ هُبّي بصَحْنكِ فاصْبَحِينا

ولا تُبْقي خُمورَ الأنْدَرِيَنا

وقد يدلّ على صاحِيَّةِ هذا المجلس أمرانِ اثنانِ في هذا البيت:

أوّلهما: /أَلاَ هُبّي/ حيث إنّ الهبوب إنما يكون عن نوم، فالشاعر يُهيبُ بالجارية أن تنهض من كَراهَا لتَجِدّ في خِدْمتِه، ولتَسْقِيَه الخمرَ.

وآخرهما: /فاصْبَحينا/ فتقدير النسج في البيت الكُلثْومي: "هُبّي من نَوْمِك، وأصبَحِيَنا بصَحْنِك" ونحن نعلم أنّ الصّبْحَ -بفتح الصاد- هو سَقْيُ الصَّبوح. والصَّبوحُ هي شراب الصَّباح (وقد ينصرفِ إلى طعام الصباح أيضاً..) فمعنى هذا البيت منصرف إلى زمن الصباح، ووقت الغدوّ. ويُعزّزُ هذا ما ورد لدى شاعر آخر من شعراء المعلّقات (وإن لم نعرض لمعلّقته، نحن، في هذه الكتابة، لاختلاف الإجماع عليها(25)، وهو الأعشى حين يقول:

وقد غَدَوْتُ إلى الحانوتِ يتبَعُني

شاوٍ مِشَلٌّ شلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ(26).

فقد كان الذهاب إلى الحانة يتمّ غدوّا لا رواحا، وصُبْحا لا مساءً.

وقد كان الشراب يَتِمّ على صورتيْن: صورةِ الشارب المُدْمِن، الناشِدِ للَّذَّةِ، والملتمس لسَماع القِيان، والتمتّع بِرَقْصِهنّ. وكان ذلك يتمّ في حاناتٍ منصوَبةٍ تُتاجِر في الخَمْر والجَوارِي. وربما كان الأعشى يُومِئُ ببَيْته العَجيب إلى هذا الضرْب من الحوانيت التي كانت منصوَبةً من الحواضر العربيّة هنا وهناك. والصورة الأخراة: إنّ الشارب كان رُبّما ابتاعَ زقّاً من الخمر، ثمّ دعا أصدقاء له ليُشاربُوهُ في مناسبة من المناسبات، أو على وجه الإدمان، أو على وجه تبادل المجالس بين الصَّديق والإِخوان. وغالباً ما كان يصحب هذا الشرابَ أكْلُ لحمٍ مشويٍّ، كما وردت الإِشارة إلى ذلك في أبيات امرئ القيس، وطرفة (والأعشى):

*فظلّ طُهاةُ الحَيّ من بيْنِ مُنْضِجٍ صفِيفَ شِوَاءٍ..

*فظلّ الإماء يَمْتَللْنَ حُوارها.

وقد غدوْتُ إلى الحانوتِ يتبعُني

شاوٍ، مَشلٌّ، شَلُولٌ، شُلشُلٌ شَوِلُ

وكما كانت زعمت الرواةُ حول يوم دارة جلجل حيث كان الشاعر والنساء يأكلون من لحم المطيّة المنحورة، ويشربون من فضلة خمر كانت مع النساء في رواية، ومع امرئ القيس في رواية أُخراة(27).

وأمّا شراب الماء، في المائدة الجاهليّة، فيبدو أنّه لم يكن يقدّم في مجالس اللهو والطربَ، فغدير امرئ القيس (غدير داره جلجل) إنما ذُكِرَ في معرض السباحة والعُرْي، وكان التمتّع بماء الغدير على بعض هذا الأساس. وحين ذَكَرَ امرُؤُ القيس القِرْبَة (وإن كنّا نذهب مع القدماء إلى أنَّ هذه الأبيات الأربعةَ التي جاءت بعد ذكر القِرْبَةِ ليست لأمرئِ القيس، غالِباً) فإنما ذكرَها على أساس أنّها سِقَاءٌ للماء يَصْلُح للسّفْرِ يشرَبون منه لدَى الظّمَأ. فلم يُذْكر الماءُ، هنا إِذن، في معرض النزهة واللهو، ولكنه ذُكِرَ في معرض البطش والشظف والكدح.

وأمّا عنترة فيذكر الماء على أساس أنَّه شراب جيّد للإبل، حيث يمدح ماءَ عينِ الدُّحرُضَيْنِ الذي شرَبتْ منه ناقتُه فحَسُنَتْ لذلك حالُها، فسمنَتْ وفُرُهَتْ من وجهة، وأمست راغبةً من الشراب من ماء حِيَاضِ الدَّيْلَمِ (وهو ماء الأعداء لزُعُوقِهِ) من وجهة أخراة:

شرِبَتْ بِمَاءِ الدُّحْرُضَيْنِ فأصْبَحَتْ

زَوْراءَ تَنْفُرُ عَنْ حِياضِ الدَّيْلَمِ

بينما أمرُ الماءِ لدى زهير يقع بين ذلك وسطاً: فلا هو شراب الدوابِّ كما هو لدى عنترة، ولا هو شراب السَّفْرِ والظّعْنِ كما هو لدى امرئِ القيس (إذا سلّمنا بأنّ أبيات القربة الأربعة هي له حقّا)، ولكنه صالحٌ للشراب والمتاع والمُقام جميعاً:

فلمّا وَردْنَ الماءَ زُرْقاً جِمَامُهُ

وضَعْنَ عِصِيّ الحاضر المُتَخَيّمِ

وكأنّ طقوس الماء المتعلّقة بالارتفاق به كانت استقرَّت لدى بعض هذه الحاجات:

1-الاستحمام والسباحة (في الغُدران، والوديان، والعيون)

2-إِرواء الإبل والمواشي والإنسان منه.

3-اصطحابه أيّام الظَّعَنِ في القِراب أو الشِّنان.

4-اشْتِرَابه في المائدة مع الطعام لإِرواء الظَّمَأ.

وكانوا يصطنعون في الارتفاق بالماء الأدلاء لدى امْتِحائِهِ، والشِّنان لدى نقْلِهِ من الآبار أو العيون إلى البيت، والقِراب لدى اُدِّخاره لبعض الوقت، لبعض الحاجة. كما كانوا يعَوّلوُنَ، أساساً، على مياه الأطواءِ، والعيون، والغُدْران، والوِدْيان.. وقل إِنهم كانوا يعوّلون على المِياه السطحيّة، أكثر مما كانوا يعوّلون على المياه الجوفيّة.

رابعاً: مرتفقات الفروسيّة والسفر:

كانت الحياة العربيّة، على عهد الجاهليّة، قائمة على الحركة والتَّظعان، والسفرَ والتَّطواف، فكانت القبائلُ تنتقل من شِعْب إلى شِعْبِ، ومن سَهل إلى سهل، ومن ماء إلى ماء، لأسباب كثيرة، منها:

1-إنّ مجتمع أولئك العرب البادين كان رَعَوِيَّاً، أساساً، لا زراعيَّا، فكانوا يُيَمّمُونَ مَساقِطَ الحَياءِ، ويتتبَّعون مواقِعَ الخِصْبِ والماء، فكانوا كُلّما ارتعت إبلُهُم الكلأَ الذي نزلوا به، أرسلوأ مُرتادَهُمْ يَرْتَادُ لَهمُ لينتَقِلُوا إلى موقع آخر، وهلمّ جرا.. ولو استقرّوا في موقع واحد لكانوا ابْتَنَوا البنايات، وشيّدوا الناطحات، كما وقع بعض ذلك في بعض حواضرهم الأزليّة مثل الحيرة ويثرب، وصنعاء ومأرب، حيث بني بمدينة صنعاء قصْرُ غَمْدان الذي ربما يكون أوَّل ناطحةِ سحابٍ في التاريخ.. ولكن لم يكن ممكناً أن يستقِرَّ العربُ، وقل إن شئت الأَعراب، لأنَّ حياتهم، كما سلفت الإِيماءة إلى ذلك، كانت تنهض، في نظامِها الاقتصادي، على الرَّعْي، لا على الزراعة إلاّ في الجنوب، وفي بعض الأودية الخصيبة.

2-إنهم لكثرة ما كانوا يُغيرون على بعضهم، ولكثرة ما كان سَواؤُهم يُغِيرُ عليهم، في الوقت ذاته، فقد كانوا مُضْطَرِين إلى التماس الشِّعاب الآمِنة، والروابي البعيدة التي قد تجعلهم في مأمَن مَّا مِنَ الغارات المشنونة عليهم. ولكنّ تلك المواقع التي كانوا يتوخّون اختيارها ليقطنوها، لم تكن حِصْنا حصينا لهم من القبائل المناوِئَة لهم، والأقوى من قبيلتهم التي إليها ينتمون فكانوا يرتحلون كلّما أحسَّوا بخطر داهم، وشرّ واقِع، بهم.

وعلى الرغم من أننا نصادف ألفاظَاً حضاريّة تدلّ على تقدّم العمارة، وتطُور البنيان، في بعض الحواضِر العربيّة العتيقة مثل القصر، والباب، والمُمَرّد، وذلك لدى طرفة خصوصاً، فإنّ عامة متون المعلّقات تجنح لوصف المجتمع العربيّ الجاهليّ كما ألفْنا تمثُّلَه من خلال القراءات والأوصاف الموروثة في بطون المجلّدات والأمهات من المصادر: وهو قيامه على نظام الخِيام، والطِرافِ والخِبَاءِ، والنُّؤْي، والأطناب والرّحل، والكوُر، والسَّرْج، والِلَّجام..

كان الفرسان يتّخذون لهم الخيل مَرْكَبَاً (امرؤ القيس -عنترة- عمرو بن كلثوم)؛ وكانوا يتّخذون لهم السُّروَج غالِباً، وربما كانوا يركَبونها وهي عُريانَةٌ. وكانوا يَعُدّون ذلك من الفروسيّة العاليّة، حيث كان الفارس غيرُ العَنيفِ، أو الفارس المُتمكِّنُ، كان ينزو على الحصان نزوة واحدة على متنه فكأنما خُلِقَ على ظهره، وهي سيرة كان يأتيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه(28). من أجل ذلك كان عمر يوصي العرب بعدم اتّخاذ السُّرج والرُّكُبِ، والنّزْوِ على الخيل نَزْوَاً(29)، لأنَّ اتخاذ السرج والرُّكُبِ يوشك أن يُثْقِلَ حركة الفارس لدى الصّريخ، كما يوشك أن يحمل الفارس على الكَسَل...

وكان للفروسية أصول مرعيّة لديهم. وقد أبدع الشعراء في وصف الخيل وركْضِها إِبداعاً عجيباً. وكان الخيّالون يتّخذون تقاليدَ يتبعونها في تسمين الجِياد وتفريهَها، فنجد لديهم الإضمار أو التضمير الذي كان، يعني لديهم، شدّ السروج عليها، وتجليلها "بالأَجِلّةِ حتّى تعْرَقَ تحتها، فيَذْهَب رَهَلُها، ويشتدّ لَحْمها، ويُحْمَل عليها غلمان خِفاف يُجرْونها ولا يَعْنُفُون بها، فإذا فُعِلَ ذلك بها، أُمِنَ عليها البُهْرُ الشديد عند حُضْرِها، ولمْ يَقطعها الشّدُّ"(30). وربما كان يمتدّ ذلك على مدى أربعين يوماً(31) وكانوا يطلقون على الحير الذي تركض فيه الخيل، مسافةً معيّنة، المِضْمَار. وكانت المسافة التي تقطعها الجياد حُضْرَاً تُسمَّى لديهم المَيدان. بينما كان منتهى الميدان يسمَّى الغاية. وكان مقدارُ المسافةِ التي أَحْضَرَهَا داحِس والغبراءُ مائةَ غلوةٍ(32) وكانت مسافة الغلوة مقدَّرةً بمدَى رمية السهم. وربما لا يجاوز مدى رمية السهم عشرينَ مِتراً ممّا نصطلح عليه نحن اليوم، مما يمكن تقدير مسافة حُضْر تينكِ الفرسَيْن الشهيرتيْن بزهاء ألفَيْ مِتْرٍ، أو ثلاثةِ آلاف في أقصَى الاحتمالات.

من أجل ذلك لم تغب، أمام حضور الفرس لدى العرب، الفروسيّة والسفر من متن المعلّقات، وقد تحدّث معظم المعلّقاتيّين عن السَّفَرِ، ووصفوا رَحَلاتهم وما كان يساورهم فيها من أهوال وشدائد، كما جاء ذلك امرؤ القيس، ولبيد، وعنترة.. بيد أنّ الذي تَوقف لدى الفرَس يصفه بدِقّةٍ وحُبٍّ، هو امرؤ القيس، بينما الذي وصف لنا عواطِفَه إزاءَه، بل صوَّر لنا مُحاوَرته إيَّاه، إنما هو عنترة. فكأنّهما أبرعُ المعلّقاتيّين ليس في وصف الفرس فَقَطْ، ولكنْ في حبّه أيضاً.

من أجل كلّ ذلك، ألفينا المعلّقاتيّين يتعاملون مع الحصان من حيث هم فرسان، ويتعاملون مع البعير من حيث هم رُحَّلٌ على وجه الدهر، فكثرت الألفاظ الدالّة، في معلّقاتهم على بعض هذا الاهتمام، مثل الكور، والرَّحل، والغَبيط، والسرْج، واللِّجام، والزِّمام، والمِحْزَم، والبعير، والشدنيّة، والقَلوص، والمَطيِّة، والرِّحالة، والعِنان، والعَنيفِ(33)، والاهتزام، والصَّهَوات، والمَتْن، والحَال (مقعد الفارس من ظهر الفرَس)، والمُنْجَرد، والهَيْكَل، والكُمَيْت، والحداء، والمَرَاكل، والرِكاب، والصافِن.. وما لا ييْسُر تتبُّعُه بدقّةٍ في متون المعلّقات، حيث إننا لو جئنا نتحدث فقط عن الرِّحلة والفروسية وملازماتِهِما لاستغرق ذلك منّا مجلّداً كاملاً. وهو أمرٌ بادٍ.

ومن الواضح أنّ هذه الآلات والتجهيزات التي كانت تُتّخَذُ للسّفَرِ، وسواء علينا أكان سَفَرُ المرأة (الغبيط، والخِدْر، والحدج..)، أم سفر الفارس على الفَرس إلى حرْبِ، أو إلى نُزْهة، أم سفر المسافر إلى بعيدٍ في تجارة، أو قضاء حاجة على البعير: كانت وراءها أيْدٍ صَناع، وعقولٌ مُبْدعِة. وكانت الغاية من إِنشائها، ثمّ تطويرها، هو رفاهية المسافر حتّى لا يَشُقّ عليه سَفرُه.

وكانت تلك الأدواتُ والآلاتُ والمُرتفقات التي تَلْزَمُ المسافرَ تَتّجِّه في اتجاهين اثنيْن: أحدهما راحة الإنسان ويَمْثُلُ ذلك في مثل السَّرْج، والكُوُر، والرَّحْل، والرِّحالة، والركاب، والغبيط، والخِدَّر.. وأحدهما الآخر يمثل في راحة العيون المركوب -أو الرَّكوَبة- وابتغاءَ التحكُّم فيه دون إيذائه، ما أمكن ذلك، مثل الزِّمام، واللِّجام، أو العِنان، ونحوِهَما...

***

إِحالات وتعليقات

1-الزوزني، شرح المعلّقات السبع، 28، والقرشي، جمهرة أشعار العرب، 44

2-ياقوت الحموي، معجم البلدان، 379.6 (الفسطاط).

3-ابن كثير، السيرة النبويّة، 276.1، وابن هشام، السيرة النبويّة، 193.1

4-م.س

5-ابن كثير، م.م.س، 273.3 وما بعدها

6-الزوزنيّ، م.م.س، 46

7-ابن عبد ربه، العقد الفريد، 148.4 وانظر أيضاً ابن قتيبة كتاب العرب، في: رسائل البلغاء، 344-377

8-ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 172.1-173

9-C.L.STRAUS, MYTHOLOGIQUES, TIII P.7 1 ET SUIV

10-ينظر أبو عثمان الجاحظ، البيان والتبيين، 40.3 وابن منظور، لسان العرب، حلل.

11-ابن منظور، م.س، ثفل

12-ابن قتيبة، كتاب العرب، في رسائل البلغاء، ص370

13-م.س

14-الجاحظ، م.م.س، 36.1

15-اختلف في وصف أُكْلَة العِلْهِز، فمنهم من زعم أنّها نباتٌ كان ينبت ببلاد بني سُلَيم، له أصل كأصل البُرْدِيّ، ومنهم من ذهب- وهذا هو الأشهر- إلى أنها أكلة تتركَّبُ من أوبار الإبل ودم الحَلَم (بفتح الحاء واللام). وكانوا يَشْوون هذه التركيبةَ العجيبة ثم يبتلعونها اضْطراراً. وزعم ابن الأعرابيّ أنّ العِلْهِز هو "الصوف ينفش ويُشْرَبُ بالدماء، ويُشْوَى ويؤكل (ابن منظور، علهز).

16-المجدوح: دم كان يُخْلَطُ مع غيره فيؤكل في الجَدْب. وقيل: المجْدوح: دم الفَصِيدِ كان يُسْتعمل في الجدْب، على عهد الجاهليّة، وكان ربما عَمَدَ أحدهم إلى ناقته ففَصَدَها وأخذ دمَها في إناء فشرِبَه. وأمّا شراب الفَظِّ فقد كان عبارةً عن “ماء الكُرِشِ يُعْتَصُر فُيشْرَبُ منه عند عوزِ الماءِ في الفلَوَات، وبه شُبّهَ الرُجلُ الفَظّ الغليظ، لِغلَظِه "ابن منظور، م.س، فظظ.

17-تزعم المعاجم العربيّة أنّ هذه اللفظة فارسيّة الأصْل، وهي حلوى تصنع من لُباب البُرِّ وشَهْدِ العسل، كما يدلّ على ذلك قول أميّة بن أبي الصلت في عبد الله بْنِ جُدْعان:

له داعٍ بمكّة مُشْمَعِلٌّ

وآخرُ فوق دارته يُنَادِى

إلى ردْح من الشِيزَى مِلاءٍٍ

لُباب البُرِ يُلْبَكُ بالشِّهِادِ

والردح هو الجِفان ، أمّا الشِّيزى فَضَرْبٌ من الخَشَبِ تُصْنَعُ منه الجِفَان.

هذا، وقد اضطرب ابن منظور في تفسير لفظ "الفالوذ" (لسان العرب، فلذ). وانظر ابن قتيبة، كتاب العرب، ص367.

18-م.س، 368

19-م.س، 369

20-ابن منظور، م.م.س، ثفل.

21-م.س

22-ومما يدلّ على ذلك قول راجزهم:

جارية شبَّتْ شَباباً غَضَّا

تُصْبحُ مَحْضاً، وتُعِشَّى رَضَّا

م.س، رضّ.

23-الحُوار (بضمّ الحاء): ولَدُ الناقة الفتيّ، يطلق على الذكر والأنثى.

24-تراجع المقالة التي كتبناها حول بعض هذه الطقوس والمعتقدات (وهي التاسعة).

 

25-راجع نصّ معلّقة الأعشى في: القرشيّ جمهرة أشعار العرب، 56-63 وديوانه 163-169

26-الأعشى، ديوانه، 147

27-القرشيّ م.م.س، 39، وابن قتيبة، الشعر والشعراء، 66.1

28-الجاحظ، م.م.س، 20.3-21 ذلك، وقد ذهب الجاحظ إلى أنّ الرّكُبَ للسَّرج والرّحل قديمة في تاريخ الفروسيَّة العربيّة، ولكن رُكُبَ الحديدِ المتمحّضة للسروج لمْ تُتّخذ إلاّ أيامَ الأزارقة

29-م.س، 21.3

30-ابن منظور، م.م.س، ضمر

31-م.س، وابن عبد ربّه، م.م.س، 151.5

32-م.س

33-ردّدنا هذه اللفظة عدة مرات، وهي في كلّ أطوار تَردادنا لها تَرْمْي دلالّتُها لدينا إلى غير ما هو شائع في دلالة اللغة العربية المعاصرة حيث إنّ العَنِيفَ في مصطلحات الفروسيّة العربيّة يعني الشّخْص الذي لا يُحْسِنُ ركوب الخيل، فيَقَعُ مِنْ على صَهْوَتِها، ويُجْمَعُ العَنيف، بهذا المعنى، على عُنُفٍ. وقد غَلطَ الزوزنيّ حين ذهب في تفسيرها إلى أقرب دَلالة اللفظ الشائعة بين الناس، وذلك كلّه مستخلص من بيت امرئ القيس:

يُزِلّ الغلامَ الخِفّ عنْ صهواتِهِ

ويُلوي بأثوابِ /العنيفِ/ المْثُقّلِ

 

انظر الزوزني، م.م.س، 32، وابن منظور، م.م.س، عنف.

الصفحة الرئيسية

مع تحيات موقع الأرقام